عزاءات تاريخية لبؤس الإنسان المعاصر!

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عزاءات تاريخية لبؤس الإنسان المعاصر!, اليوم السبت 8 مارس 2025 01:46 مساءً

عبد اللطيف أجدور

اتسمت السنوات الأخيرة باضطرابات غير مسبوقة على مختلف الأصعدة، جعلت الأزمة تتغلغل في نسيج المجتمعات والأفئدة، فمع أن بداية الألفية كانت هادئة إلى حد بعيد، باستثناء أحداث 11 سبتمبر 2001م، والغزو الأمريكي للعراق الذي تلاه، إلا أن بداية التسعينات حتى نهاية العقد الأول من الألفية عرفت هدنة إقليمية وعالمية، بعيد زمن الانقلابات العسكرية والحرب الباردة. إذ تفرغت الإنسانية لحيز من السلام، مكنها من التركيز على الفنون والآداب والبحث العلمي، وبلورة إبداعات جديدة في السينما والمسرح والموسيقى الحديثة، صاحب ذلك كله انفجار تكنولوجي هائل.

 

انفرط عقد هذا السلام باندلاع ما سمي بالربيع العربي، حركات مدنية ثورية نددت بالفساد، وأمَّلت بعهد تداول السلط، وبنهضة وتنوير اجتماعي وفكري، وبتحقيق العدالة الإجتماعية التي طال انتظارها ببلاد الشرق الأوسط، لكن اختطاف هذه الحركات، ودخول كيانات سياسية وعسكرية أجنبية على الخط، حوّل تلك المناطق إلى ميادين تصفية حسابات ضيقة مخلفة دمارا رهيبا، يستدعي إعادة إعمار تلك الرقع الجغرافية بشريا وعمرانيا سنوات عديدة.

 

ولم يكد العالم، كذلك، يستسيغ هول جائحة كوفيد، وما تلاها من أزمات صحية بنيوية، وتضخم اقتصادي مهول، حتى اندلع الصراع المسلح في أوكرانيا، وشهد العالم شعبوية أمريكية خالصة مع دونالد ترامب.. ومن جانب آخر، تواصل ارتفاع درجة حرارة الكوكب، وتهديد الأمن المائي والغذائي جراء شح التساقطات وتوالي سنين الجفاف.. إن الاختلالات المناخية المطردة التي تطبع الكوكب كما أسلفنا، أدخلت الأرض في سلسلة من الكوارث الطبيعية التي تتسع رقعتها عاما بعد آخر، وتتزايد شراستها سنة بعد أخرى، ولعل الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا مسويا مجمعات سكنية كاملة بالأرض، ومخلفا آلاف الضحايا وملابين الدولارات من الخسائر، من أفتك الزلازل في التاريخ المعاصر، شأنه في ذلك شأن زلزال منطقة الحوز بالمغرب، الذي لم يقل تدميرا ولا فُجاءة، والأغرب أنه ضرب منطقة كامنة جيولوجيا، وأن رقعته امتدت لمساحات شاسعة جدا، ربطت جنوب المملكة بشمالها، هذا دون تتبع سلسلة الحرائق التي تضرب بشكل متتابع عدة دول، بشكل لم يسبق له مثيل؛ أما آخر الفجائع فإنها الإبادة الممنهجة المرعبة للفلسطينيين بغزة.

 

 

 تلك لمحات من اضطرابات متتالية، يغشى بعضها بعضا، أحالت الفرد المعاصر إلى كيان منشطر، غير مستكين، ويجهل شعوره حيال كل هذا، والأصعب كيف تجب مواجهته، والمحصلة مزيج من القلق والحيرة، والعجز العميق.

 

 

ينبغي قبل الحكم بفساد الزمن، والقطع ببؤس الإنسان المعاصر، النظر إلى الأمر بمنظار التاريخ، ووزنه بميزان الشعوب البائدة والحضارات السائدة، لأن رحلة البشرية على الكوكب لطالما كانت رحلة كفاح وعرق ودم، يحدثنا المؤرخون عن العديد من الكوارث والأزمات الجلل، التي، لم تخلف خسائر وضحايا فادحة وحسب، بل كادت تستأصل وجود النوع البشري من أصله. أوبئة أفظع، ومجاعات أوسع، ومجازر أشنع، نخلص من تتبعها إلى استنتاج هيغل: يعلمنا التاريخ أننا لا نتعلم من التاريخ. 

 

 

جسدت الحربان العالميتان الأولى والثانية، حدود ما يمكن أن تبلغه العنهجية البشرية من تطرف، إذ إن المصادر التاريخية، تشير إلى أن هاتين الحربين وحدهما، كبّدت البشر ملايين الجثث والأشلاء، وألقت إلى حيث كان ملايين أخرى من الأطفال والنساء والعجائز، دون الالتفات إلى الأضرار الأخرى غير المباشرة التي تشمل الأمراض، والعاهات المستديمة، والتلوث البيئي الخطير، جراء استعمال الأسلحة النووية والكيميائية والحروب البيولوجية. وما تلا ذلك من حروب مذكر منها حرب الكوريتين، والفيتنام، والهند الصينية، وعشرات الحروب الأهلية الأخرى، ونكتفي بذكر أن ستالين زعيم الاتحاد السوفيتي السابق، قتل لوحده ما يناهز أربعين مليون شخص.

 

أما إذا صرفنا وجوهنا تلقاء الكوارث الطبيعية، فيسعنا الحديث عن الإنفلونزا الإسبانية أشهر الأوبئة في القرن العشرين. ظهرت نهاية الحرب العالمية الأولى في وقت كان العالم فيه ما يزال يلتقط أنفاسه المختنقة بالبارود.

 

 ظهرت الإنفلونزا في الولايات المتحدة سنة 1918م، ثم في أوروبا، وتحدثت الصحافة الإسبانية عن الوباء باعتبارها دولة محايدة خلال الحرب، فسُمي الوباء بالإنفلونزا الإسبانية.

 

كانت الدول منشغلة بتضميد جراح الحرب، زد على ذلك تضرر المنشآت الصحية، والنقص الحاد في الأطر الطبية.. أسهم ذلك كله في حصد الإنفلونزا الإسبانية أرواح 50 مليون شخص على الأقل، وإصابة نصف مليار إنسان.

 

أما طاعون "الموت الأسود" الذي فتك بالإنسانية خلال القرن الرابع عشر، حيث انتقل بسرعة من الصين إلى الهند وآسيا الوسطى حتى اجتاح أوروبا وشمال إفريقيا. فكان عام 1349م "الموت الأسود" قد تفشى في أوروبا، زقضى على زهاء نصف سكان أوروبا. تقدر بعض المصادر عدد الضحايا بـ75 مليوناً حتر 150 مليون، وتسبب في تغيرات كبيرة على بنية المجتمعات.

 

إن ابن خلدون وهو يتحدث عن تقلب الدهر بين فترات رخاء وفترات شقاء، لا يعني بالطبع أن تلك حتمية لا فكاك منها. لكنه يلفت إلى إصرار الإنسان على إعادة إنتاج البؤس، عبر تحكيم غرائزه البهيمية، وتغليب نوازعه الأنانية، وأن عدم الانتصار على هذه الطريقة في التفكير، لا يمكن سوى أن تكرر هذه الحلقة المفرغة إلى ما لا نهاية، أملا في مجيء جيل من البشر، يتوج العقل والحكمة والتروي، والمحبة الصادقة، والإخاء الإنساني الخالص، غير المشوب بأهداف مبيتة ومصالح مواربة، آنئذ، وفقط آنئذ، يمكن العيش، لا في انقطاع تام عن كل أزمة، ولكن في قدر أدنى ما يكون من المعاناة، اذا انتفت الحروب والصراعات، وتم تسخير كل الطاقات الطبيعية والإمكانات البشرية، واستثمار كل التراكم العلمي والتقني الغزير، والإرث المعرفي الحضاري الوفير، لتطوير أساليب توفر للجميع، ونعني هنا الجميع، غداء كافيا، وماء شروبا، وسقفا آمنا، ورعاية صحية وتعليما مناسبين؛ في تلك اللحظة، حصرا في تلك اللحظة، التي يجب أن توسم بالتاريخية، يحق للإنسان، بتعبير رينيه ديكارت "أن يستحق إنسانيته".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق